Page d'accueil Nos saints
Sainte Thérèse de Jésus (d’Avila)
Vocation

الرَّحمة الإلهيَّة وتريزا ليسوع – 5 -
(ضمن سِلسِلة محاضرات أُلقِيَت خلال رياضة سنويَّة لِرُهبان الكرمَل)
الأب جان عبدو الكرمَلي


ردُّ تريزا ليسوع على الرّحمة الالهيّة
اكتشفت أمّنا القديسة تريزا ليسوع الافيلية، طوال مسيرتِها الرّوحيّة، سرَّ اللهِ والانسانِ من خلالِ تجربتِها مع الرّحمةِ الالهيّةِ. وسوفَ ينتجُ عن تِلك التجربةِ ردٌّ من قبلِها على الرّحمةِ الالهيّةِ. لذا سنرى سويّةً في لقائِنا اليومَ ردًّا يحتذى به، فكان ثمرةَ علاقةٍ حميمةٍ عاشَتْها مع اللهِ بالحقيقة والحبِّ. الانسانيّة المستحقّة، والرّحمة الالهيّة.
التأمّل: ملاقاة الرّحمة الالهيّة
ردٌّ بالايمان على آب المراحم، «الحبُّ يستدعي الحبَّ» (السيرة 22، 14).
الاصلاح التريزياني: موضع ممارسة الرّحمة الالهيّة، «بمراحم الله للأبد أتغنَّى».
الانسانيّة المستحقّة والرّحمة الالهيّة
توصّلت القديسة في تجربتِها مع البؤس الانساني والرّحمةِ الالهيّةِ إلى استنتاجِ مفهومٍ لاهوتيٍّ جديدٍ للإستحقاقِ الانسانيّ. كشفت تريزا لنا عن أسسِ ردِّ الانسانِ على الرّحمة الالهيّة، موضحةً ذلك في تفسيرِها للصلاة الربيّةِ؛ وهو التفاوت بين المغفرةِ الالهيّة والاستحقاقِ الذي ينالَهُ الانسانُ عندما يغفرُ لمن خطِئ إليه. «فأمرٌ خطيرٌ جدًّا وذو أهميّة عظمى أن يغفر لنا ربّنا ذنوبنا التي تستحقّ نارًا أبديّة، وأن يغفرها لنا مقابل بدل زهيد، وهو أن نغفر نحن. ومن هذا البدل الزهيد، لديّ القليل القليل اقدّمه؛ فعليك، يا سيّدي، أن تغفر لي مجانًا» (طريق الكمال 36، 2).
تَعرفُ القديسة يقينًا أنه من العدلِ أنّ يستحقَّ الانسانُ العذابَ الجهنميَّ حَيالَ الاساءاتِ التي يقومُ بها تُجاه الجلالةِ الالهيّة. فالمساواةُ بين مغفرةِ الانسانِ ومغفرةِ اللهِ لا تحدُثُ إلا بفضلِ الرّحمةِ الالهيّةِ اللامتناهية. «ألا أعطنا، يا الهي، أن ندرك اننا نعرف ذواتنا، وأننا نأتي وأيدينا فارغة، وأغفر لنا، أنت، برحمتك» (طريق الكمال 36، 6).

«صرفت حياتي كلَّها بالرغائب، أما الأفعال فلا أحقِّقها. كانت رحمة الله في عوني» (التأسيسات 28، 35).
تلك الجملةُ، وأخرى كثيرةٌ، تشهدُ أنهُ ليس بمجهودِ الانسانِ الشخصيّ يستحقُ القداسةَ، وتكمل موضحةً: «صحيحٌ أن ليس بإمكانكنَّ الدخولُ إلى جميع المنازل بقواكنَّ، ولو بدت لكنّ كبيرة، إن لم يُدخلكُنَّ القصرَ الربُّ نفسُه» (المنازل الخاتمة 2).
بالطبع، لا تدعو القديسةُ إلى الابتعادِ عن الأعمالِ بل بالعكس فهي التي حثّت الراهبات على القيامِ بذلك: «وأكرِّر القولَ إن من الضروري، لهذه الغاية [القران الرّوحي] أن لا تُقِمن الأساس على الصلاة والتأمّل فقط، فإذا لم تُحَصِّلْنَ الفضائلَ فتمارسنَها تبقينَ أقزامًا» (المنازل السابعة 4، 9).
والفضائلُ التي تدعو القديسةُ إلى القيامِ بها هي تلكَ التي تأمّلت بها كثيرا، مثلُ فضائل:
- داوود التائب
- العشار
- توبة المجدلية
- السامرية
- العذراء المتواضعة
- القديسان بولس وبولس، فجميعُهم خَلِصوا بفضلِ الرّحمةِ الالهيّةِ.
كما أنه لا يُمكنُنا الدخولُ إلى «القصرِ الداخلي» من دونِ الاعترافِ ببؤسِنا وطلبِ الرّحمةِ الالهيّةِ كي تَخلُقَ فينا «الانسانَ الجديدَ».
«فمن الحمق التفكيرُ بأن علينا أن ندخل السماء ولا ندخل في أنفسنا بالتعرُّف إلى ذواتنا، واعتبارنا بؤسَنا وما يجب علينا نحو الله، وبطلبنا غالبًا رحمتَه» (المنازل الثانية 1، 11).
كما وأنّ التأمّل هو أيضًا نعمةٌ من الرّحمةِ الالهيّةِ. «وخيرُ وسيلةٍ للمحافظة على هذه المنّة هي أن نفهم واضحًا أن لا شأن لنا فيها زيادة أو نقصانًا، بل نستطيع ان نتلقاها بفعل شكر مع إدراكنا أنّنا أحقرُ من أن نستحقها؛ ولا يكون الشكر بكلام بل برفع عيننا كما فعل العشار» (طريق الكمال 31، 6).
- توبةُ مريم المجدلية ودموعُها (السيرة 9، 2)
- اعترافُ القديس بطرس بانه خاطئٌ (السيرة 22، 11)
- عطشُ السامريةِ الى الماءِ الحيّ (السيرة 30، 19)
- تواضُع العذراءِ العميق (طريق الكمال 13، 3)
هي أكثر من أمثالٍ أعطَتْها القديسةُ كي يقتدي بها الانسانُ ليستَحِقَ النعمَ الالهيّةَ. فكلُّ استحقاقِ النفسِ وقفٌ على ادراكِها ان حقيقةَ وجودِها تعتمدُ كليًّا على اللهِ الخالقِ. «فالحقيقة الكبيرة جدًّا هي أننا نملك من نفسنا شيئا صالحًا، بل البؤسَ، وكوننا عدمًا؛ ومن لا يفهم هذا، فهو يسير في الكذب. ومن ازداد فهمًا له ازداد إرضاءً للحقيقة المطلقة، لأنه يسير فيها» (المنازل السادسة 10، 7). «أما جلاله، فيعلم أني أستطيع الاعتدادَ برحمته فحسب. وما دمتُ لا استطيع أن أغيّر حياتي السالفة، فلا حيلةَ لي إلاّ أن أفوِّض أمري إلى جلاله، وأن اتّكل على استحقاقات ابنه واستحقاقات العذراء أمّه التي ألبسُ، من دون استحقاق، ثوبَها» (المنازل الثالثة 1، 3).
فعلى النفسِ أن تتحلّى بالشجاعةِ والحزمِ وتنسى أيَّ عملٍ تعتَبِرُه خيِّرًا «وان تستحضِرَ خطاياها وترتَميَ في رحمةِ الله» (المنازل السادسة 5،5).
عندها تُصبحُ النفسُ مستعدةً للإتحادِ باللهِ والاتيانِ بفضائلَ وأعمالٍ كبيرةٍ وعظيمةٍ. لا بل تُحَوِّلُها الرّحمةُ الالهيّةُ لتكونَ منصاعةً لعملِ الرّوحِ القدسِ فيها، وتؤهِلُها لتكونَ عروسَ المسيحِ، فتشارِكُه طبيعَتَه الالهيّة. «أوتظنين، يا ابنتي، انّ الاستحقاق قوامه المتعة؟ بل لا يقوم إلا على العمل، والتألّم، والحبّ» (التقارير 36). «تعلمين الخطوبة المعقودة بينك وبيني، فمِن ثمَّ، ما هو لي فهو لكِ، وعليه فأنا أعطيك جميع المشقات والآلام التي قاسيتها، وهكذا يمكنك أن تطلبيها من أبي كمُلك خاص لك» (التقارير 51).
الحبُّ هو الذي يحققُ ذلك الاتحادَ؛ فتصبحُ حياةُ النفسِ ثمرةَ الرّحمةِ الخلاصيةِ، ويحرِرُها اللهُ من عبوديةِ الخطيئةِ. فتستحقُ النفسُ حياةَ المسيحِ هنا على هذهِ الأرضِ. «ان من اقترن بالربِّ فقد صار وإياه روحًا واحدًا... هذا ما أرى النفسَ تستطيع قولَه هنا، لأنه الموضعَ الذي تستطيع الفراشةُ، أن تموتَ فيه بمتعةٍ ذلك أن حياتَها منذ الآن هي المسيح» (المنازل السابعة 2، 5).

التأمّل: ملاقاة الرّحمة الالهيّة
أدركتِ تريزا أن جميعَ مستحقاتِها ليست إلا مستحقاتُ المسيحِ، الذي بفضلِ رحمتِهِ رفعَها من بؤسِها وضعفِها. فتلكَ التجربةُ مع الرّحمةِ الالهيّةِ سوفَ ينتُجُ عنها ردًّا جوهريًّا من القديسةِ ألا وهو: وضعُ التأمّل في صلبِ حياتِها وأساسِ اهتدائِها. لذا نلاحظُ أنّ الرّحمةَ الالهيّةَ تحتلُ مكانةً أساسيًّة لا بل جوهريّةً في تعريفِ تريزا عن التأمّل، فتقولُ: «إن من بدأ ممارسة التأمّل فلا ينقطعنّ عنه مهما فعل من زلّات، لأنه الوسيلة التي تساعده على معالجة أمره... فإنّني أثقُ برحمة الله، لأنّ أحدًا لم يتَّخذْه خليلا إلا وبادله صداقةً بصداقة. وما التأمّل، في رأيي، إلا حديث صداقة نجريه غالبًا على انفراد مع من نعرف انّه يحبّنا» (السيرة 8، 5).
فالصداقةُ التي عليها تؤسِسُ تريزا تأملاتِها هي ثمرةُ الحبِّ الرحومِ. والتأمّلُ هو نقطةُ التقاءِ بؤسِ الانسانِ ورحمةِ الله. وبالتأمّلِ نختبِرُ أيضًا وجودَ إلهٍ يريدُ أن يَبذُلَ ذاتَهُ لدرجةِ أنهُ يشارِكُنا حياتَه وثالوثَهُ.
«أَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمُ الْمَجْدَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي، لِيَكُونُوا وَاحِدًا كَمَا أَنَّنَا نَحْنُ وَاحِدٌ. أَنَا فِيهِمْ وَأَنْتَ فِيَّ لِيَكُونُوا مُكَمَّلِينَ إِلَى وَاحِدٍ، وَلِيَعْلَمَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي، وَأَحْبَبْتَهُمْ كَمَا أَحْبَبْتَنِي». (يوحنا 17، 22-23)
وفي التأمّلِ كانت تعي تريزا أخطاءَها بوضوحٍ أكبرَ، وفيهِ أيضًا أدركت أن ارادةَ اللهِ ليست سوى بالجودِ عليها بواسعِ رحمتِه. «كنت أراها [المنن] من الثقل بحيث لا أجرؤ أن أتمنّى، عن وعي، مسرّاتٍ أو مباهج. أعتبر أنّه كان يغمرني بعطفه. وفي الحقيقة، كان يُسبغ عليَّ رحمته إذ يرتضيني أمامه ويقبلني في حضرته. وما كان ذلك ليتمّ، في اعتقادي، لولا تعطّفه» (االسيرة 9، 9).
فالتأمّلُ بالنسبةِ للقديسةِ هو:
- عَيشُ الانجيلِ؛ أي ملاقاةُ المسيحِ الحيّ.
- وسيلةُ اهتداءٍ وحبٍّ وعملِ الفضائلِ.
- بابُ الدخولِ إلى حضرةِ الله.
- الطريقُ الوحيدُ لبلوغِ القداسةِ.
«إن ماء الخيرات والمنن الجزيلة، الذي يعطيه الربّ في هذه الحالة، ينمّي الفضائل بما لا مثيل له في حالة التأمّل السابقة، لأن النفسَ تنطلق مرتفعةً من بؤسها وتُعطى شيئًا من العلم بلذائذ السماء... وهذا ما يجعلها ... تزداد نموًا وتقترب من الله مصدر كلّ الفضائل» (السيرة 14، 5). والنفسُ التي لا تمارسُ التأمُّلَ، تُغلِقُ البابَ في وجهِ النعمِ الالهيّةِ ووجهِ خلاصِها. «أكتفي بالقول إنّ التأمّل هو الباب الذي غمرني عبره بهذه المنن الجزيلة. ولا أدري كيف يُسبغ هذه المنن إذا ما اُغلق هذا الباب، لأنّه إذا رغب في الدخول إلى نفسٍ ليتتنعَّم فيها ويُبهجها، فلا سبيل إلى ذلك إلاّ أن تكون النفس وحيدةً نقيّةً، وتائقةً إلى تلقي تلك المنن» (السيرة 8، 9).
إذًا فقد أصبحَ التأمّلُ بالنسبة إلى القديسةِ أساسًا للخلاصِ ومصدرَ تعزيةٍ وقوةٍ. فهي اختبرت شخصيًا التجاربَ التي تواجِهُها النفوسُ التي تمارس التأمّلَ. «كنت اقصده فأشكو إليه كلّ هذه المشقات فأخرج من التأمّل مملوءةً تعزيةً وقوًى جديدةً» (السيرة 29، 49). ولكنَّها ثابرت ولم تتوقف عن التأمّلِ يومًا. «لكني أدرك تمامًا أنَّ إهمال التأمّل لم يكن بيدي، لأنّ الذي يحبّني كان يمسكني بيديه ليضاعف سوابغَ نِعَمِهِ لي» (السيرة 7، 17).
والتأمّلُ بالنسبة للقديسةِ هو أيضًا موضعُ ممارسةِ الرّحمةِ. فقد دَعَت مثلا راهباتِها إلى ممارسةِ التأمّلِ والصلاةِ على نيّة المسؤولينَ عن الكنيسةِ، واللاهوتيين، والمعرّفين، والأنفسُ المطهرية، والخطأة، الخ. فتريزا تؤمِنُ بقوةِ الشفاعةِ، وصلاةُ الجماعةِ ووحدتِها. وإن كان التأمّلُ موضعَ ممارسَةِ الرّحمةِ فهو أيضًا موضعُ الحصولِ عليها. «طُوبَى لِلرُّحَمَاءِ، لأَنَّهُمْ يُرْحَمُونَ» (متى 5، 7).

ردٌّ بالايمان على آب المراحم
إنَّ اختبارَ ولاءَ، ووفاءَ اللهِ بالرغم من خياناتِ تريزا أدى الى تحولِها الى شخصٍ مخلصٍ وصادقٍ. فالرّحمةُ الالهيّةُ أقوى من الشرِّ، سمحَت للقديسةِ أن تترفّعَ عن عقوقِها وضعفِها، وتجدَ الطمأنينةَ والأمان. كما أنها حرّرتْها من الخوفِ، والجبنِ، اللذينِ كانا يشلّان نفسَها، فانطلقَت في «طريقِ الكمالِ» والايمانِ بآبِ المراحم. «فلا تَتَشكَّين، إذا، من المخاوف، ولا تتخاذلنّ عزيمتنا عندما نرى ضعف طبيعتنا وجهدنا، بل فلنجتهد لنتقوّى بالتواضع، ولنفهم بوضوح ما اقلّ ما نستطيع، وانه إذا لم يسعفنا الله فلسنا شيئًا. فلنَرْتَبْ ارتيابًا كليًا بقوانا، ولنثقْ برحمته؛ فما لم نبلغْ هذا، نكنْ في ضعف تام» (خواطر في حب الله 3، 12). فبالثقةِ باللهِ وانكارِ الذاتِ تكتسبُ النفسُ المِننَ الالهيّة. «فإذا سألتنَّ الله دائمًا أن يعنى بشؤونكنَّ، فلا تتَّكِلنَ إطلاقًا على ذواتكنَّ، فلن يبخل عليكنَّ برحمته. وإذا وضعتنَّ فيه ثقتكنَّ وتسلَّحتنَّ بشجاعةِ قلب، وجلالُه يهوى هذا، فلا تخَفنَ أن يفوتكنَّ شيء» (التأسيسات 27، 12).
وبفضل ديناميكيّة الايمانِ، تبلغُ تريزا الاتحادَ مع المسيحِ، ومع الاقانيمِ الثلاثةِ. فايمانُ تريزا مرتبطٌ بخبرتِها الرّوحيّة. فكلما ازدادّ سبغُ المننِ عليها، كلما أيقنت عدَمِها، وكلمّا عَرِفت ماهيةَ الرّحمةِ الالهيّةِ. «انّ النفس، كلّما آتاها نعمةً أكبرَ، ازداد احتقارها ذاتَها، واشتدَّ تذكُرُّها خطاياها، ونسيانها كَسْبها، وشُغلُها إرادتَها وذاكرتَها بطلبِ كرامة الله، ولا تتذكَّرُ فائدتَها الخاصة، ويزداد خوفُها من أن تنحرفَ في أيِّ شيءٍ عن ارادته، ويرسُخُ يقينها بأنها ما استحقَّت قطّ تلك النعم، بل جهنّم. فإذا احدثت النعم وجميع الأشياء التي اقتبلَتْها في التأمّل هذه المفاعيلَ، فلا يُسيطرَنَّ الهلعُ على النفس، بل فلتثِق برحمة الربّ، لأنه أمين» (المنزل السادسة 3، 17).
واذ تصلُ النفسُ الى القرانِ الرّوحي، فها هي تضعُ كل ما يخصُها أمامَ الرّحمةِ الالهيّةِ. وهذا ما يُعرفُ بالايمانِ الحيّ، المتقِدِ بالحبِّ الالهيّ من خلالِ التأمّل. «إلا أنّي كنت أعتبر الحبّ الذي يكنّه لي فأستعيد شجاعتي. لقد ارتبتُ بنفسي ايّما ارتياب، لكنّي ما يئست من رحمته» (السيرة 9، 7) ويجبُ الاشارةُ إلى أن اختبارَ تريزا لضعفِها، لم يكُن عائقًا لها، بل بالعكس، فقد كشفَ لها ان اللهَ وحدَهُ هو مخلصُ نفسِها. ومنذ ذلكَ الحينِ، تتسلحُ النفسُ بشجاعةٍ جديدةٍ تسمحُ لها بالقيامِ بفضائلَ كبيرةٍ بكل ورعٍ وتواضعٍ.

«الحبُّ يستدعي الحبَّ» (السيرة 22، 14)
عندما أرادت تريزا أن تعطيَّ مثالا عن حبِّ الله، ذكرت القديسَ بولسَ ومريمَ المجدلية، اللذين اختبرا بشدّة الرّحمة الالهيّة. «كم يستحيل أن يُكتَمَ حبُّ الله إذا كان حبًّا حقيقيًّا! وإلا، فإليكنّ القديس بولس، والمجدلية. فبعد ثلاثة أيام، بدأ الأوّل، يفهم انه كان يعاني من مرض الحبّ. هذا كان القديس بولس. أمّا المجدلية، ففهمت منذ اليوم الأول، وما أحسن ما فَهِمَت!» (طريق الكمال 41، 3).
نلاحظُ انَّ القديسةَ كانت تتشبهُ كثيرًا بمريمَ المجدلية، وذلك ليس فقط لأنها خاطئةٌ، إنما لأنها أحبَّت كثيرًا. فالحبُّ هو ثمرةُ الرّحمةِ الالهيّةِ. فغفرانُ اللهِ وحبُّ المجدلية لديهما المصدر نفسه: قلبُ يسوع الرحوم.
منذ طفولتِها حتى لحظة اهتدائِها، كانت حياةُ القديسةِ الرّوحيةِ نرجسيّة (égocentrique). وعلى سبيلِ المثال فقد تمنت مرارًا أن تموتَ ميتَةَ القديساتِ الشهيداتِ اذ قالت: «ليس بدافعِ حبيَّ الله حبًّا واعيًا، بل رغبةً في النعّم، بأسرع ما يكون، بخيور السماء العظيمة» (السيرة 1، 4).
إنما وبالتأمّل الذي مارستْهُ أشبهُ بعلاقةِ صداقةٍ مع الله، أوجدت لها حياةَ حبٍّ حقيقيةٍ، حتى بات خوفُها «مُشْبَع بحبِّ الله» (السيرة 6، 4)
إنَّ اختبارَ الرّحمةِ الالهيّةِ في التأمّلِ يستحثُ الحبَّ والعرفان. «ما أصدقَ تحمُّلَكَ مَن يتعب من صحبتك! ما أخلصَك، ربّي، صديقًا له! كم تُسبغ عليه من هبات، وتحتمله بطول اناة، وتنتظر أن يسمو إلى مستواك، بينما تتحمَّل، ربّي، صابرًا، مستواه!» (السيرة 8، 6). فبالنسبةِ إلى تريزا الحبُّ هو اتحادُ اشخاصٍ متحابين. وان نكونَ مسيحيين يعني أن نلتقي بالمسيحِ، والثالوثِ، والانسانِ ونعيشَ في اتحادِ الحبِّ. والتأمّلُ هو ممارسةُ الحبِّ الالهيّ، الذي يقودُ الانسانَ الى الاتحادِ بالمسيح، لدرجةِ أنهُ يصبحُ المسيحَ، فيجمعُ حولَه أشخاصًا ليضمَّهُم إلى الاتحادِ نفسِه.
كلُّ شيءٍ عندَ تريزا يرتكزُ ويُلخصُ بمفهومِ الصداقةِ:
- صداقةٌ مع الله.
- صداقةٌ مع أصدقاءِ الله.

ففي كتابِ «طريقِ الكمالِ» تكرّسُ القديسةُ ثلاثةَ فصولٍ عن الصداقةِ، لتظهرَ الاتحادَ الذي ندركُه بفضلِ الحبِّ الالهيِّ. وكيفَ أنهُ يجبُ على الجماعاتِ الرهبانيّةِ أن تكون مثالا حيًّا لتلك الصداقةِ الرّوحيّةِ.
وهي كانتِ السبّاقةُ في ذلك، اذ جمعت حولَها باقةً من الاصدقاءِ قبيلَ تأسيسِها ديرَ مار يوسف، لكلٍّ منهم مهامُه الخاصة إنما متحدين في إرضاءِ الله. (السيرة 16، 7)
صداقةٌ قوامُها:
- التضامنُ في البحثِ عن الله «لذا أنصح الذين يمارسون التأمّل، خصوصًا متى كانوا في أوّل عهدهم به، أن يسعوا ليخالطوا ويصادقوا من يتعاطون هذه الرياضة نفسها. إنّ هذا لأمرٌ ذو أهميّةٍ قصوى ولو اقتصر على مساعدة بعضهم بعضًا بالصلاة» (السيرة 16، 7).
والحوارُ مع الآخرِ سواءَ أكانَ حوارًا مع اللهِ في التأمُّلِ أو في الحواراتِ الرّوحيّةِ مع الآخرين، تنالُ النفسُ إذا حاجتَها من الحبِّ لكي تنموَ من خلالِ التأمّلِ والصداقةِ الاخوية. فهي تنفتحُ شيئا فشيئًا على الحبِّ الذي يبذُغُه اللهُ عليها إلى أن «تصبحَ مشغوفةً» به (المنازل الخامسة 4،4).
فتدعونا القديسةُ أن نقدِّرَ حبَّ المسيحِ لنا لأنَّ «الحبَّ يستدعي الحبَّ» (السيرة 22، 14). اذ انّه في علاقةٍ كهذه، ينمو الحبُّ لدرجةٍ أنه ينطبعُ في القلبِ، ويمكن لذلك القلبُ، من الآن وصاعدا، ان يحبَّ بسهولةٍ. واذ تمحو الرّحمةُ الالهيّةُ بؤسَ النفسِ، تَهَبُ عندها تلكَ الأخيرةُ كليَّتَها لمن بذَلَ ذاتَه من أجلِها.
فبما أن التأمّلَ بالنسبةِ للقديسةِ مكان التقاءِ بؤسِ النفسِ والرّحمةِ الالهيّة، فهذا يعني انه مكانُ تواجدِ الحبِّ.
فان التقدّمَ في طريقِ الكمالِ وعبور المنازلِ للوصولِ إلى القصرِ الداخليّ. «لا يقومان على أن نُكثرَ التفكيرَ، بل على أن نحبَّ كثيرًا» (المنازل الرابعة 1، 7)
وفي نظرةٍ ملؤُها الحبُّ، ترى القديسةَ أحداثَ حياتِها، ومرضِها، وضعفِها، وتأملاتِها، وأفعالِها، إنما هي نتيجةُ رحمةِ اللهِ عليها. وتجاهَ من أساءَ اليها لا يمكنُها إلا أن تغفرَ لهُ كما غفرَ لها اللهُ زلاتِها وتبادلُهم «حبًّا خاصًا رقيقًا» (المنازل السادسة 1، 5) مقتنعةً «أن جلالهُ يسمح بذلك لفائدة كبرى تجنيها» (المنازل السادسة 1، 5). «لا استطيع ان اعتقد ان نفسًا دنت هذا الدنوّ من الرّحمة نفسها، حيث تعرف ذاتها على حقيقتها وكم غفر الله لها، تمتنع عن الصفح حالاً، وبعفويّة، ولا تُفصح عن استعدادها للتصالح مع من أهانها» (طريق الكمال 36، 12).
فمن خلال محبَّةِ القريبِ نميّزُ النفسَ المتحدةَ باللهِ «فحبُّ جلاله لنا عظيمٌ بحيث إنه، مقابل محبتنا القريب، يُنمِّي حبَّنا لجلالِه بألف طريقة» (المنازل الخامسة 3، 8).
فكلُ ديرٍ ارادتْهُ تريزا معلمتُنا ان يكونَ «منزل القديسة مرتا» (طريق الكمال 17، 5) ففيهِ من يميلُ الى الحياةِ العمليّةِ ولا يتذمرُ مِمَن يستغرقُ في التطلّعِ، واؤلئكَ يدافعُ الربُّ عنهم ولو بقوا صامتين

الاصلاح التريزياني: موضع ممارسة الرّحمة الالهيّة
الاصلاحُ الذي شرعَت به «القديسةُ الأمُّ» هو عملٌ منظمٌ من قبل الرّحمةِ الالهيّةِ. «أني، وأنا أشهد المراحم التي يصنعها ربّنا إلى النفوس التي جاء بها إلى هذه الأديار، أديار رضي جلاله بأنّ تؤسّس وفق القانون الأول لرهبانية سيّدة الكرمل» (خواطر في حب الله، تمهيد 1)
نظامٌ أساسُهُ التأمّل والتطلّع وتعاليمُ القديسين الذين ينحدِرون من سلالتِهم، وأيضًا كلام الانجيل المقدس والرّحمة الالهيّة.
شدّدت فيهِ على الاخوّةِ والصداقةِ والحذرِ من الأفضلياتِ «لأنَّها قد تكون سامّة حتى بين الأخوة، ولا تجتلب منفعة» (طريق الكمال 4، 7).
نظام شددت فيه أيضًا على:
- اللطف
- الصبر
- العلم والمعرفة
- الرّحمة على مثال الأم العذراء
- التوجيه والارشاد
- أرادت تريزا جماعات تبقي فضيلة الرجاء حيّة
بقناعتها ان المسيحَ يتألمُ «لأن نفوسًا كثيرة لا تخدمه لافتقارها إلى أمكنة تخدمه فيها» (التقارير9). شرَعَت القديسةُ في تأسيس أديرة حيثُ تُمارَسُ فيها وتُختَبَرُ الرّحمةُ الالهيّةُ. «الربّ يصنع مراحمَ عظيمةً فيه [الدير]، وحمل اليه نفوسًا سيأتي الحديث عن قداستها في حينه ليُحمَدَ الربُّ، لأنّه بهذه الوسائط يريد أن يعظّم أعماله ويؤتي خلائقه نعمة» (التأسيسات 10، 7).
ففي بداياتِها، كانت تريزا مكتفيّةً ومقتنعةً بنمطِ الحياةِ الذي كانت تعيشُه في ديرِ التجسّدِ. لم تفكرْ مطلقًا في اصلاح الرهبنةِ، حتى انها لم ترَ نفسها قادرةً على انجازِ مهمةٍ كهذه. انما اللهُ ، «يختار الضعفاءَ لكي يخزي الحكماءَ» ( 1 كور 1، 27) اختارها وقواها وأولاها تلك المهمة. فالرّحمةُ الالهيّةُ قامت بأصلاحِ شخصِ القديسةِ تريزا أولا لتشرَعَ هي في اصلاحِ رهبنَتِها بعد ذلك. «فمن ثمَّ فهمت أن ربّنا لمّا أراد أن يحيي روح هذه الرهبانية واتخذني برحمته وسيلة لذلك، كان على جلاله ان يوفّر لي ما يفوتني، أعني كلَّ شيء، لتحقيق النتيجة ولإظهار عظمته بصورة أفضل في شيء كهذا حقير» (التقارير 34).
كما أن مشروعَ الاصلاحِ التريزياني يقومُ بمجملِه على هدفٍ وحيدٍ وهو: عيشُ كمالِ الحبِّ. ففي اقتدائِنا بالمسيحِ المصلوبِ والقائمِ من الموتِ، نخلصُ نحن ونخلِّصُ أنفسًا أخرى أيضًا. فالكمالُ المرجو هو بمجملِهِ أن نكونَ في خدمةِ الكنيسةِ الأمِّ، مفعمينَ بغيرةٍ رسوليةٍ، محبينَ بعضنا لبعضٍ. «وما أرفع ما يثمّن الربُّ حبَّ بعضِنا بعضًا! ولكان يسوع الصالح يستطيع أن يضع أمام الآب فضائل أخرى ويقول له: «اغفر لنا، يا ربّ، لأننا نصنع توبة نصوحًا، أو لأننا نصلي كثيرًا، ونصوم، وقد تركنا كلّ شيء من أجلك، ونحبّك كثيرًا»؛ ولم يقل «لأننا مستعدّون لأن نبذل حياتنا من أجلك»، وأشياء أخرى كان يمكنه أن يعرضها، كما ذكرت، بل اقتصر على القول «لأننا نغفر»» (طريق الكمال 36 ، 7).
إصلاحٌ بدايتُه رحمةٌ، وغايتُه الأخيرةُ الرّحمةُ. إذ لم تكتفِ القديسةُ في نصِ نظامٍ نواتُه الرّحمةُ أو كتاباتٍ تهدفُ الى معرفةِ الرّحمةِ، انما قامَت باصلاحِ وإنشاءِ الأديرةِ تمارَسُ «الرّحمةُ الالهيّةُ» ضمنَ حيطانِها وخارجِها.
«بمراحم الله للأبد أتغنى»
يتوّجُ ردُّ النفسِ على الرّحمةِ الالهيّةِ بالتسبيحِ. ففي تأمّلِ عملِ الرّحمةِ ومن خلالِها تأمّلِ الله، ارتفعَت نفسُ القديسةِ بالتسبيحِ. «أحمد رحمة الله لأنه وحده كان يمدُّ لي يده. تبارك دائمًا أبدًا. آمين» (السيرة 8، 22). وكلّما ازدادت مِنَنُ اللهِ تجاهِها كلّما ازدادَ معها تسبيحُها للرّحمةِ الالهيّةِ. «فكلما ازداد الشرّ ازداد تألقُ خيرِ مراحمك العظيم. فما أولاني أن أترنم بمراحمك إلى الأبد!» (السيرة 14، 10).
«إنَّ غزارةَ الرّحمةِ الالهيّةِ التي لا تنضُبَ تجاه خليقتِهِ هي التي تَستحِثُ تسبحتَهُ. إنه لا يتعب أبدًا من العطاء، ولا يمكن أن تنضب مراحمُه؛ فلا نكِلَّنّ، نحن، من قبولها! تبارك إلى الأبد! آمين! ولتسبِّحْهُ جميعُ الخلائق!» (السيرة 19، 15).
تأمّلُها الدائمُ بالرّحمةِ الالهيّةِ قادها إلى تأمّلِ الله بذاتِه. فمن خلالِ عملِ رحمةِ الرّوح القدس في حياتِها، اكتشَفَت سرَّ اللهِ وشرعَت في تسبيحِهِ: «آه، يا ربّي! ما أعجب المراحم التي تسبغها على النفس! فلتكن مباركًا وممجدًّا إلى الأبد، فإنك محبّ، فائق الصلاح» (خواطر في حب الله 5،5).
وجاءَت مُجمَلُ حياتِها التأمّليةِ نشيدَ فعلِ شكران. فقد قبِلَت رحمةَ اللهِ لها ومن خلالِها سبّحَت خالقَها. «وخيرُ وسيلة للمحافظة على هذه المنة [التأمّل] هي أن نفهم واضحًا أن لا شأن لنا فيها زيادة أو نقصانًا، بل نستطيع أن نتلقّاها بفعل شكر» (طريق الكمال 31، 6).
فبالنسبة إلى القديسة الأمّ: إنَّ نعمةَ اللهِ تدفعُ النفسَ إلى تسبحتِهِ، والرّحمةَ الالهيّةَ تدفعُها الى النموِ والنضجِ والسموِّ. أما النفسُ المضطربةُ والقلقةُ فهي ضحيّةُ عملِ الشيطان. لذا دعت تريزا في تعاليمِها أن نتمرّسَ مجتمعينَ على تسبيحِ اللهِ الذي يرفعُ النفسَ نحو السماء. «إذ يرى واضحًا أن هذا التسبيح يصدر من أعماق النفس. إني لأودُّ، يا اخواتي، أن تفعلن هذا غالبًا، لأن واحدة تبدأ، توقظ الأخريات» (المنازل السادسة 6،12).
قصدَت القديسةُ من خلالِ مجملِ كتاباتِها وعرض تجربتِها مع الرّحمةِ الالهيّةِ، أن تحثَنا على تسبحةِ أب المراحِمِ ولهذا الغرض نراها قد عنونَت كتابَ السيرةِ «مراحم الله».
وتعرضُ في كتابِ «المنازل» عملَ الرّحمةِ الالهيّةِ في النفس: «لقد استعطفتُ جلالَه الأمرَ أيَّ استعطاف، فهو يعرف أنَّ غرضي ان لا تظلَّ مراحمُه خفيّةً كي يزدادَ تسبيحُ اسمِه وتمجيده» (المنازل السابعة 1، 1).
وجمعت في كتابِ «التأسيساتِ» مجملَ المننِ التي تلقَّتْها خلالَ إصلاحِها الرهبنة ولا دافعَ لديها «سوى حمدُ ربِّنا ومجدُه» (التأسيسات تمهيد 4).
وختمَت كتابَ «طريقِ الكمالِ» بقولِها «فليكن الربُّ مباركًا وممجدًّا، فمن لدنه يأتينا كلُّ الخير الذي نقوله، ونفكّر فيه ونعلّمه» (طريق الكمال 42، 7).
و«خواطرُ في حبِّ الله» تبدأ بالتمهيدِ في التغنّي بالرّحمةِ الالهيّةِ وتنهيها في تسبحةِ الله. أما من كتابِ «الابتهالاتِ» تتدفقُ من قلبِ تريزا العفوي ابتهالاتٌ، وتسابيحُ، وشكرانُ، لمن كان لها مصدرَ كلَّ رحمةٍ ونعمةٍ. ولهذا السببِ يخصُ التقليدُ والليتورجيا الأمّ القديسة تريزا ليسوع، بآية المزمور 88: «بمراحم الله للأبد أتغنى».

Saint
Joseph Epoux de la V. Marie

Sainte
Thérèse de Jésus (d’Avila)

Saint
Jean De La Croix

Sainte
Thérèse de l’Enfant Jésus de la Sainte Face

Sainte
Thérèse-Bénédicte de la Croix

Sainte
Marie de Jésus Crucifié

Sainte
Elisabeth de la Trinité

Bienheureuse
Thérèse Marie de la Croix

Saint
Raphael Kalinowski

Bhx. Fr.
Marie-Eugène de L'Enfant Jésus

Autre Saints

les Saints du Carmel

Carmel Kids