كتابة الأب نوهرا صفير الكَرمَلي

كلُّ عَمَل رسولي يَجد مَكانتهُ وقوَّتهُ في المَحَبَّة، والكَنيسَة المقدَّسَة تنوَّعَت في خدَمَاتِهَا غير أنَّ الرِّسَالة واحِدة، والرَّبُّ يَسوع أشرَكَ رُسُلهُ في كلِّ رسَالة يقومون بهَا في الكَنيسَة وفي العَالم. وهَكَذا صار عليهم بنوع خاص أن يَنشروا الإيمَان ويدافِعوا عنهُ بالقول والفِعِل كشهود حقيقيِّين ليَسوع.

إنَّ تريزا مَاريَّا للصليب شَارَكَت شعبَ الله بهذِهِ المهمَّة، فنَشَرَت قبلَ كلِّ شيء شهَادَة حيَّة بعيشِهَا الإيمَان والمَحَبَّة في كلِّ عَمَل رَحمَة.

مَارَسَت عَمَل الرَّحمَة في رسَالتِهَا فتعَدَّدَت أنواعُهَا وانفَتَحَتْ حقولٌ مختلِفة جدّاً لكُلِّ نشاطاتِهَا: كالشبيبَة والتربية والأيتام والعَائِلة وغيرُهَا... ولعِبَت هذه المَرأة في عصرنَا دوراً إيجَابياً ما زالت فعَاليَّتهُ تتزايد في حَيَاة المجتَمَع كلِّهِ حتَّى يَومِنَا هذا، فاجتَهَدَت ووقفَتْ وتنَاغَمَتْ بينَ هذِهِ وتِلك ذاكِرَة أنَّهُ على الإنسان المَسيحي أن يَقود رسَالتهُ في جميع المَجَالات الزمَنيَّة باذِلاً جهداً كبيراً في خِدمَةِ الإنجيل كلِمَةِ الحَيَاة التي لا تعرف المَغيب.

عَمِلَت دائِماً وباستمرار على إنمَاء مَفهوم الحُبّ كما عَمِلَتْ على نشر هذا المَفهوم في حَيَاتِهَا ورسَالتِهَا في الكَرمَل فنَشَطَتْ في تقديم الضِيَافَة وسَائِر أعمَال الرَّحمَة والخير في خِدمَة جميع أخواتِهَا وإخوتِهَا ويَحسُنُ بنا أن نسرُد هنا بعض هذِهِ الأعمَال المختلِفة في مَا يَلي: تبَنّي الأولاد المهمَلين، إرشَاد المراهقين ومُسَاعَدَتِهم، المؤازرَة في التعليم الدّيني، مسَاعَدة العَائِلات في ضيقاتِهم المَاديَّة والمعنويَّة... في هذه الأعمَال تمَسَّكَت بالإنجيل المقدَّس في جميع أبعَادِهِ الإنسَانيَّة والرَّسوليَّة وأعطت المَثَل الحَقيقي في الشَّهَادَة الحقَّة للمَسيح أمامَ العَالم، وجَاهَرَتْ أمَامَ مجتمَعِهَا بإيمَانِهَا بالإله الواحِد والثالوث، وبابن الله المتجَسِّد، فشَهدَت بجهدٍ مشترَك وتقدير للرَّجَاء الذي لا يُخزى، وَدَعَتْ في رسَالتِهَا إلى العَمَل المشترَك معبِّرَة عن التعَاون بصورة حيَّة مِن خلال حَيَاةٍ يُنعِشُهَا الإيمَان.

اجتَهَدَتْ بقلبٍ واحِدٍ وتصميم واحِد على أن تضَعَ وبدون تأخير طريقة فعَّالة في خِدمَة الكثير مِن أعمَال الرِّسَالة وذلِكَ وفقاً لمقتضَيَات الزَّمَان والمَكَان فأنعَشَت بذلِكَ القِيَم المَسيحيَّة والإنسَانيَّة متمِّمَة آمَال النفوس ومَقاصِد الله الكُلّي القدرَة والصَّلاح.

يَنبَع هذا العَمَل والبُعد الرَّسولي في حَيَاتِهَا مِن عُمقِ الحَيَاة المَسيحيَّة الحقيقيَّة التي عاشَتهَا مَع مَن هُم بأمسّ الحَاجَةِ إليهَا (يو 4\14) فكانَ التعبير عن ذلِكَ في الأعمَال والتأسيسَات وحَيَاة المَحَبَّة التي أنعَشَتْ رسَالتَهَا.

كانَ يَسوع يَدعوهَا دائِماً إلى واقِعِهَا، إلى صليب الحُبّ، إلى تذوُّق المَلكوت مِن خلال بَذل الذات والعَطاء فكرَّسَت طاقاتِهَا لمَعرفة عيش الحُبّ للَّذينَ حَولهَا، وتدريبِهُم على الحَيَاة الدينيَّة والروح المَسيحيَّة، وحثِّهُم على قبول الأسرار بتكرار وبخاصَّة على تعزيز تقواهُم نحو الإفخارستيَّا.

استمدَّت تريزا مَاريَّا للصليب قوَّة عَمَلِهَا الرَّسولي مِن مطابَقتِهَا المبَاشرَة على أهداف الكَنيسَة ومِنَ الشَّهَادَة المَسيحيَّة التي تؤدِّيهَا في عَمَلِهَا ومِن الروح الإنجيلي الذي تعيشُهُ.

هذا البُعد الرَّسولي عند تريزا مَاريَّا حقَّقَ في الكَنيسَة وفي الكَرمَل عَمَلاً رسوليّاً مميَّزاً وذا قيمَة جَمَعَ فيهِ التبشير والتربية وبَثّ روح الإنجيل في الجَمَاعَات والأوسَاط المختلِفة كَمَا وأنَّهَا مَارَسَتْ مَعَ أخواتِهَا الكَرمَليَّات المَسؤوليَّة في التدبير ودرس الأوضاع مِن جميع الجوانب.

تفرحُ الكَنيسَة المقدَّسَة فرحاً كبيراً بالخدَمَات التي يَقومُ بهَا أبناؤهَا مِن مكرَّسين وعلمَانيِّين، وتريزا مَاريَّا اندمَجَت في هذا العَمَل الكَنَسي الرَّسولي فعزَّزَت فيهِ روح المَحَبَّة الأخويَّة وذلِكَ حَسَبَ تنوُّع الرِّسَالة والهَدَف الذي ترمي إليه فكَانَت تشدِّد أخواتِهَا الكَرمَليَّات أن يَحفظن مَا أمَرَ بهِ يَسوع جاذِبَة إيَّاهُن إلى شتى أعمَال الرَّحمَة والمَحَبَّة ليكنَّ بهذِهِ الأعمَال نوراً للعَالم يَشهَدنَ فيه على أمَانتِهنَّ في نشر كلام الرَّبّ.

هذا الشعور الرَّسولي سَاعَدَهَا في جميع نشَاطاتِهَا وتأسيسَاتِهَا وقادَت مِن خلالِهِ أخواتِهَا الكَرمَليَّات إلى الوحدة في المَحَبَّة كَمَا وَرَدَ في رسَالة القدِّيس بولس إلى رومَا: "محبِّينَ بعضكُم بعضاً حبّاً أخويّاً، مبَادرينَ بعضُكُم بعضاً بالإكرام". (رومية 12\10)

تهدفُ التربية في عَمَلِهَا الرَّسولي إلى تثقيف الإنسَان حتى يعرفَ عَالم اليَوم حقَّ المَعرفة وكيفَ عليهِ أن يَختلِطَ ويَتكيَّف مَعَ مجتمَعِهِ ومَع مَن هم مِن حولِهِ ورسَالتُهَا هذه امتلأت مِن إيمَانِهَا الكُلّي لعريسِهَا الإلهي مَدفوعَة بقوَّة الروح القدس الَّذي لطالمَا كانَ ربيعَهَا الدائِم. ولعبَ اهتِمَامُهَا بالأولاد دوراً مهماً في التربية ليَكونوا هم بدورهِم مجتهدين كلَّ الجهد على تنميَة التقوى والقداسَة في حَيَاتِهم، كَمَا وأنَّ هذه التربية الرَّسوليَّة التي سَعَت إليهَا تريزا تحمِل هؤلاء الأولاد على ممَارَسَة الحياة الدينية ومشاركة إخوتِهم في وقت الألم والفرَح وعلى مُسَاعَدَة المُحتاجين حولهُم بعَطاء كلّي وكَامِل.

لقد واجَهَت تريزا مَاريَّا بفرَح وشهَامَة قلب جميع الأحداث التي صادفتهَا في عَمَلِهَا الرَّسولي والتأسيسي، وبَنَتْ حَيَاتها كَكَرمَليَّة على نور الإيمَان والتأمُّل اليَومي بكلام الله، وبهذهِ الحَيَاة اليَوميَّة استطاعَت أن ترى يَسوع في النَّاس كلِّهم، الأقارب والغربَاء منهم، واختبَرَت أنَّهُ على الإنسَان المَسيحي والمؤمِن أن يَعرف كيفَ يَحكُم بصدق تامّ على معنى الشؤون اليَوميَّة والزمَنيَّة وقيمَتِهَا في عمقِ ذاتِهَا وفي صِلتِهَا بغايَة الإنسَان.

عاشَت في حَيَاتِهَا الرُّهبَانيَّة والرَّسوليَّة كلِّها على الرَّجَاء والإيمَان المَسيحي متذكِّرة صليبَ عريسِهَا ومتأمِّلة في مَجدِ قيَامتِهِ حتَّى اختبأت مَعَ المَسيح في الله متحرِّرَة مِن كلِّ تعلُّق دنيوي وتوق شديد إلى الخيور التي لا تزول مكرِّسَة نفسَهَا بسَخَاء كلِّي لنشر مَلكوت الله والعيش بروح مَسيحيَّة كَرمَليَّة.

يتميَّز التلميذ الحَقيقيّ ليَسوع بالمَحَبَّة، وتريزا مَاريَّا وجَّهَت جميع وسَائِل رسَالتِهَا إلى هذهِ الغايَة فكَانت المَحَبَّة نتيجَة جَعَلتهَا تحبّ الله حبّاً جمّاً وتراه في تلكَ النفوس العَطشى فصَارَت هذهِ المَحَبَّة العَطيَّة الأولى والأكثَر عطاءً منفتِحَةً على كلام الله والعَمَل حَسَبَ مَشيئَتِهِ.

تبقى هذِهِ النَّفس القدِّيسَة المِثال الأكبَر في الحَيَاة الروحيَّة والرَّسوليَّة والكَرمَليَّة، عاشَت على أرضِنَا حَيَاة مِلؤهَا الله والاهتِمَام بالنفوس التوَّاقة لهُ، وبقيَت على اتِّصَال دائِم بعريسِهَا الَّذي أمدَّ عَمَلهَا ببرَكَة سَمَاويَّة، فكَانت مَحَبَّتُهَا مستمِدَّة مِن مَحَبَّة يَسوعِهَا وصَارَت هذِهِ المَحَبَّة مَحَبَّة أمٍّ إلى نفوس عَاشَت على هذِهِ الأرض وسَطَ مَخاطِر الحَيَاة وصعوبَاتِهَا، سَائِرَة مَعَهُم إلى وَطَن القدِّيسين. صلاتُهَا مَعَنَا. آمين.