الصوم: " صدقة، توبة، وصلاة..."

كتابة: الأب بشير معربس الكرمَلي

دخل الصوم المقدَّس على الكنيسة مع الموعوظين، وهم أناسٌ كانوا يتحضّرون للمعموديّة والإنخراط في الكنيسة، ويتعلّمون في جماعاتهم التعليم المسيحي لمدّة ثلاث سنوات، ومن ثمّ يقضون سبعة أسابيع مع الأسقف أي 50 يومًا. في نهاية هذه الأسابيع، كانوا يقبلون سرّ المعموديّة المقدَّسة في ليلة الفصح العظيم المقدَّس، والمعروفة كما يقول القدِّيس أغوسطينوس بأنَّها: "أمّ السهرات الفصحيَّة"، فهذه الليلة هي، وفق أقدم تقاليد الكنيسَة، ليلة تُحفظ للرَّبّ (خروج 12: 42).


في هذه الفترة، كان الموعوظون يتفرَّغون كلِّيًا للإصغاء إلى كلمة الله، والصوم عن كلّ الأمور الماديّة والبشريّة، مقتنعين بأن بأن "ليس بالخبز وحدهُ يحيا الإنسان، بل بكلِّ كلمة تخرُج من فم الله" (متى 4: 4).

مع تعاقب الأجيال أصبح المعمّدون بفترة الموعوظيّة، يتذكّرون موعوظيّتهم، فيصومون وينقطعون أكثر إلى كلمة الله. وهكذا انتشر تدريجيًّا الصوم في الكنيسة.

بحسب معجم اللاَّهوت الكتابي: "يكمن الصوم بالحرمان من الأكل والشرب والعلاقات الجنسيّة، خلال يوم أو أكثر من مغيب الشمس إلى مغيب آخر". لقد تغيَّر كثيرًا مفهوم الصوم في أيّامنا هذه، وذلك لجهل العديد منَّا للمفهوم العميق للصوم في الديانة المسيحيّة. يقول السيد فافرو favereau: "من المؤسف أنَّ التقشّف يعاش اليوم لأسباب تجميليّة أو رياضيّة، ولا يوجد حقيقة إلاَّ عندما تفرضهُ الحياة قسرًا على الأشخاص كمحنة غير محتملة في بعض الأحيان".

لا يمكننا الكلام عن الصوم إلاَّ ضمن إطاره الثالوثي : : "صدقة، صوم، صلاة". اليوم كما في الأمس، يعاش الصوم كوسيلة مجابهة وصراع ضدَّ الشر والخطيئة. واليوم يخفّف المسيحي من عيشه لهذا الموضوع تاركًا عنانه لأهوائه، وانحرافاته، غير مكترثٍ وشاعر بحرمان الآخرين ومعاناتهم

في هذا الزمن المقدَّس، هناكَ العديد منّا يقول: "أنا لا آكل ... طيلة فترة الصوم إماتة". إنَّ إماتة الجسد ليست بأن نؤلم الجسد، وكلمة جسد أوصلتنا إلى التباس كبير. في الكتاب المقدّس وخصوصًا في العهد الجديد، الجسد يعني شهوات العالم.

- بالإماتة، أميتُ نفسي عن كلّ إله في حياتي، غير يسوع المسيح.
- أموت عن كلّ عائق يبعدني عن الله الحقيقي، وعندئذٍ أتعامل مع الطعام على أنّه عطيّة من الله، وليس الله، وتبلغ الإماتة والحرمان من شيء في معناها الجوهري، عندما تعاش بحبّ وتقدمة لله والآخرين.

هنا نورد ثلاث نصوص عن الصوم أنَّهُ: صدقة، صلاة، ومحبَّة:
أولاً: الصوم والصدقة:


في الوقت الذي فيه يصوم البعض لتقوية إرادتهم، والبعض لأهداف تجميلية، يأتي الصوم المسيحي بحُبّ. الأساس للمسيحي هو الحُبّ، والتقشّف هو وسيلة فيها يحبّ الله والآخرين. أمّا طريقة عيش الصوم فقد أخذها المسيحي من اليهودي، وهي تأتي كجواب فرح على دعوة الله للإنسان من خلال الأنبياء في سفر أشعيا 7،58: "أَلَيسَ الصَّومُ الَّذي فَضَّلتُه هو هذا: حَلُّ قُيودِ الشَّرِّ وفَكُّ رُبُطِ النِّير وإِطْلاقُ المَسْحوقينَ أَحْرارًا وتَحْطيمُ كُلِّ نير؟ أَلَيسَ هو أَن تَكسِرَ للجائِعِ خُبزَكَ وأَن تُدخِلَ البائسينَ المَطْرودينَ بَيتَكَ وإذا رَأَيتَ العُرْيانَ أن تَكسُوَه وأَن لا تَتَوارى عن لَحمِكَ؟".

إذًا الصوم هو أن نحرم أنفسنا من أجل الآخر. حسب آباء الكنيسة نصوم من أجل أن نُعطي. لطالما وضعت الكنيسة الصوم ضمن أعمال المحبّة. عادةً يصوم المسيحي كلّ أربعاء وجمعة، ويعيش فقط على الماء والخبز، وعليه حساب كم يوفّر ثمن الأكل وإعطائه للفقراء. الصوم يجب أن يكون دومًا مصحوبًا بالصلاة والعطاء. علينا أن نكون فقراء مع الفقير، ونتألّم مع المتألّمين على مثال المسيح الفقير، والمتألّم بهذه الطريقة يصبح الحرمان لديه مشاركة بصليب المسيح.

ثانيًا: الصوم والصلاة:
يسوع يعلّم بنفسه تلاميذه كيف يصومون (متى 6، 16): "وإِذا صُمتُم فلا تُعبِّسوا كالمُرائين،فإِنَّهم يُكلِّحونَ وُجوهَهُم، لِيَظْهَرَ لِلنَّاسِ أَنَّهم صائمون. الحَقَّ أَقولُ لكم إِنَّهم أَخذوا أَجَرهم. أَمَّا أَنتَ، فإِذا صُمتَ، فادهُنْ رأسَكَ واغسِلْ وَجهَكَ، لِكَيْلا يَظْهَرَ لِلنَّاسِ أَنَّكَ صائم، بل لأَبيكَ الَّذي في الخُفْيَة، وأَبوكَ الَّذي يَرى في الخُفْيَةِ يُجازيك".

يساعدنا الصوم على النّضال ضدّ أنفسنا، ويكشف لنا أنّ طعامنا الأوّل هو كلمة الله. هنا يندرج الصوم الذي يسبق المناولة، وكان يُعاش ثلاث ساعات قبل المناولة. واليوم يقتصر على ساعة واحدة. هو نفسه أيضًا الصوم الذي يحضِّرنا للفصح الذي يهيّىء قلوبنا للمشاركة بسرّ الصليب، وللدخول في سرّ القيامة.

قبل أن يبدأ يسوع رسالته الخلاصيّة، أمضى أربعين يومًا وليلة في الصوم. هناكَ مَن يفكّر أنَّ الكنيسة تعيش الصوم تشبّهًا بصوم يسوع المسيح في البرّية، وهذا غير صحيح. إنقطع المسيح في بداية حياته العلنيّة لفترة من الزمن عن الأمور الجسديّة، تحضيرًا لبدء رسالته، وللتأكيد أنّ مشيئة الربّ وكلمته هي طعامه وقوته. لم يقاوم يسوع تجارب إبليس بالصوم، إنّما بكلمة الله. نحن لا نصوم لنغلب التجربة، بل لنتقَوّى بكلمة الله التي تعطينا القوّة للإنتصار على التجربة، وبالتالي على الخطيئة.

بالصوم، نعترف أنّ كلّ طاقات الحياة الموجودة فينا، لا تؤمّن لنا الحياة وحدها، بل كلمة الله هي القوت الحقيقي لنفوسنا. هنا يأتي الصوم والإمتناع عن الطعام، كتأكيد على إيماننا بأنّ ركيزة حياتنا هيَ "كلمة الله".

ثالثًا: ماذا يحتوي هذا الصوم المعروض كفعل محبّة؟
الصوم يشمل العلاقة مع الآخر، السهر، الطعام، إلخ...
العلاقة مع الآخر: ليس على الفمّ أن يصوم، بل على كلّ أعضاء الجسم أن تصوم.

- لتصُم الأيدي عن التطاول على مال الغير، وعن شهوة الإمتلاك ...
- لتصُم الأذُن بالإمتناع عن الإستماع إلى أقوال النميمة، واغتياب صيت الغير ...
- ليصُم الفم عن الكلام البذيء، وعن إهانة الآخرين ...

أيّة فائدة لنا بأن نمتنع عن أكل اللحوم، والأسماك، إذا كنّا نأكل إخوتنا، ونفتري عليهم بلساننا، وسائر حواسنا؟ إنّ من يتكلّم بالسوء عن أخيه، إنّما يعَضّ أخيه، وينهش لحمهُ...
السهر: يعتبر السهر المصحُوب بالصلاة حتّى ساعة متأخّرة من الليل، هو الحالة المناسبة لمجابهة ملك الظلام، وللصلاة من أجل من ليس لهم أماكن، ينامون بها.
الطعام: يمكنهُ أن يكون جزئي أو كامل، وذلك حسب قرارنا الشخصي، بالقطاعة عن اللحم، والإكتفاء بأكل متواضع، ومتقشّف خلال أوقات معيّنة من السنة.

بالصوم نتشارك ونتأمَّل بآلام المسيح على الصليب، وبآلام كلّ البشريّة التي تنوء من ثقل الخطيئة. إذن فلنصُم من كلّ قلوبنا حبّاً بالله، وإخوتنا البشر، لأنَّ الأساس في الصوم هو الحبّ، ولا شيء يبقى إلّا الحبّ، والحبّ فقط.

تدعونا الكنيسة المقدَّسة اليوم، كي نشعر بالتضامن مع الآخرين في الفرح والبحبوحة، كما في الحزن والعوز. نحن نشكّل جميعنا جسدًا واحدًا، إذا تألّم أحد الأعضاء، تألّم الجسد كلّه. وعلى المسيحي دور كبير وأساسي، لأنّه بمعونة الروح القدس يمكنهُ أن يخلّص العالم بأسره، وهذا ما يجعل من عيشهِ مسيرة توبة، ومصالحة، أمرًا أساسيًّا لا هروبَ منه.

إنَّ أمّنا الكنيسة، تطلب الصوم يوم أربعاء الرَّماد والجمعة العظيمة المقدَّسة. أمَّا الأشخاص الذين فوق ال18 سنة وتحت ال60 سنة من الساعة 12 ليلاً وحتّى الساعة 12 ظهرًا. لا ينقطع الصوم: بالقربانة – بالماء – بالدواء - بالنسيان عن الأكل.

وفي الكنيسَة المقدَّسَة، وخاصَّةً كنيستنا اللاتينيَّة، لا نصوم أيّام الآحاد لأنّها "يوم الرَّبّ، يوم قيامة المخلِّص من بين الأموات"، وكذلك يوم الإحتفال ببشارة الرَّبّ في 25 آذار، وعيد القدِّيس يوسف، خطِّيب والدة الإله في 19 آذار، ويوم الخميس العظيم المقدَّس المقدَّس والمعروف بِ "خميس الأسرار أو خميس الآلام"، هو عيدٌ إحتفاليّ – عيد الكهنة، وعيد المسيح الإله الكاهن الأوَّل، إذ في مثل هذا اليوم المقدَّس أسَّسَ ربّنا سرّ الإفخارستيَّا وسرّ الكهنوت المقدَّس.

ملاحظة: إذا وُقِعَتْ هذه الأعياد 19 و 25 آذار، أيَّام آحاد الصوم، تُنقَل إلى يوم آخر، وفقًا لِمَا تحدّدهُ الكنيسَة المقدَّسَة. لأنَّهُ لا يتقدَّم على يوم الرَّبّ أيّ عيدٍ أو احتفال بصفتهِ يومًا سيِّديًّا بالدرجة الأولى.
صوم مبارك للجميع

هذا المقال مستوحى من:
"LE SENS DU JEÛNE" de Dominique et Elisabeth LEMAITRE, série vie dans l’esprit.
- من محاضرة للأب داوود كوكباني "الصوم المقبول لدى الله"
- ملفّ الأمانة العامّة للتعليم المسيحي للمدارس الكاثوليكيّة في لبنان.

Liturgie

Icônes Carmélitaine

Vocation

Neuvaine

Prions avec Thérèse de Jésus

Rosario

Avec le Pape

Etude Bibliques

Prière et Méditation

Vive le Carmel

Chemin de Croix (Via Crucis)

Homélie

Chapelet du Saint Esprit